• الشروق العامة نيل سات: HD 10992 V SR:5000
  • الشروق الإخبارية نيل سات: SD 10992 V SR:27500
  • سي بي سي بنة نيل سات: SD 10922 V SR: 27500
الخميس 25 أفريل 2024 ميلادي, الموافق لـ 16 شوال 1445 هجري الخميس 25 أفريل 2024 م | 16 شوال 1445 هـ

آخر الأخبار

ألا تستحق شعوبنا بعض الاحترام؟

ألا تستحق شعوبنا بعض الاحترام؟ ح.م

خرج رئيس الوزراء البريطاني  ديفيد كاميرون على قومه يوم الجمعة 24 من جوان 2016 ليعلن عن رحيله في فصل الخريف، كان التأثر واضحا على محياه بعدما فشل في إقناع الجماهير بضرورة البقاء في الاتحاد الأوروبي. لقد أطلق العنان للجمهور البريطاني كي يختار ولكنه اختار أن يهز عرشه من تحت قدميه في داونينغ ستريت ويحدث زلزالا سياسيا غير متوقع من خلال التصويت  بنتيجة 52٪ -48٪ لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. كان كاميرون ينتظر النتائج، كغيره من المواطنين، بخوف وترقب فلم يكن أحد يجزم بمعرفتها مسبقا كما أنه لم يتوقع الهزيمة.

وبالتأمل في النتائج الجزئية نرى أن التقدم في السن يتناسب طرديا مع اتجاه التصويت بالمغادرة. إن الفئة الشبابية قد غلبت عليها الرغبة في البقاء في الاتحاد الأوروبي بعكس الفئة العمرية من ذوي 45 سنة فما فوق، وارتفعت نسبة الانكفاء على الذات بشكل ملحوظ عند كبار السن من ذوي 65 سنة فما فوق بصفة خاصة.  أظهرت بعض استبيانات الرأي[i]  بأن الغالبية من الفئة الجامعية أظهرت ميلا للبقاء في الاتحاد الأوروبي بخلاف الذين غادروا مقاعد الدراسة مباشرة بعد انتهاء مرحلة التعليم الإجباري بالمرحلة المتوسطة (16 سنة)؛ كما أن الفئة العاملة بدوام كامل أو جزئي كانت أكثر رغبة في البقاء من الفئة التي تعاني البطالة. السبب الذي غلب على الحوارات والمناظرات وظهر كذلك في نفس الاستبيانات السابقة كدافع قوي لـــ 49% من المصوتين بالمغادرة كان حول مبدأ استقلالية القرار: “القرارات التي تخص المملكة المتحدة يجب أن تتخذ في المملكة المتحدة”، أما السبب الثاني لثلث المصوتين (33%)  بالمغادرة، حسب نفس الاستبيان، فكان بقناعة بأن الخروج “يوفر أفضل فرصة للمملكة المتحدة لإعادة التحكم في حدودها وضبط الهجرة”. وقد ذهب بعض المحللين البريطانيين إلى اعتبار هذا التوجه ثورة الطبقة العاملة ضد المؤسسة السياسية الحاكمة منذ زمن، حيث دفعها نحو خيار المغادرة من الاتحاد الأوروبي شعورها بالتهميش والغضب من أوضاعها المتدهورة في السنوات الأخيرة والتي لم تجد آذانا صاغية بما يكفي ممن يحكمون. والحديث عن الاستقلال يستحضر للكثيرين منهم ذاكرة الحرب العالمية الأخيرة فيصير طعم القوة التي تحظى بها ألمانيا في الاتحاد الأوروبي مرا وبالغ الحساسية، وبهذا اعتبر القوميون منهم يوم 23 من جوان عيدا لاستقلال حصلوا عليه من دون بارود.

لقد أنذر كاميرون حتى بحّ صوته بأن بريطانيا ستخسر كثيرا بخروجها من الاتحاد الأوروبي، ولكن من يأبه لكلامه من الطبقة العاملة التي تجرعت مآسي الأزمة الاقتصادية ولم تتلمس الفوائد الاقتصادية للبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي؟ كل ما شاهدته هذه الطبقة هو ارتفاع نسبة المهاجرين من دول أوروبا الشرقية مع ارتفاع المنافسة في سوق العمل. كان منطقها التصويتي يقول: لن نخسر أكثر مما خسرناه، وبعضنا لا يجد بيتا يأويه. إذن صعوبة وجود السكن بأسعار مقدور عليها،  وعدم وجود فرص عمل آمنة لذوي المؤهلات المحدودة، وانحدار المستوى المعيشي للطبقة العاملة، وتدهور مستوى الخدمات العامة كلها نواتج لسياسة متعثرة ولأجل ذلك وجه الناخبون صفعتهم التأديبية لرئيس الحكومة.

نعم، حصل الفوز في هذا القرار المصيري بفارق بسيط ولكن الجميع حط سلاحه ونزل عن جواده معترفا بالنتيجة مفكرا: “ماذا بعد؟” وحديث “ماذا بعد؟” له شجونه، فقد علت دعوات في كل من إيرلندا الشمالية واسكتلندا، حيث صوتت الأغلبية مع “البقاء”، بإعادة النظر في الاتفاقيات السابقة وبطرح موضوع الانفصال عن المملكة المتحدة للانتخاب الشعبي لأجل التمكن من الانضمام للاتحاد الأوروبي بقرار مستقل عن انجلترا. بل، لقد تحركت بعض المياه الراكدة في نهر التايمز بأمواج المطالبة باستقلال لندن أيضا لأنها صوتت بالأغلبية لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي! أما فئة الشباب ( 13-17 سنة) من دون سن الانتخاب فقد أعلنت احتجاجها على كبار السن (65 سنة فما فوق) بأنهم قرروا مصيرا ليس لهم؛ لأنهم قد لا يعيشوا كي يحضروا تداعيات الانسحاب على جيل الشباب الذي هو المستقبل!

أثناء كل ذلك، كنت أتامل المشهد بألوانه المختلفة وأتساءل عن الذل الذي وصلت إليه أحوال بلداننا. لقد انتخب الشعب البريطاني منذ أشهر وبإرادته من يحكمه ولم يشكك أحد منهم في نزاهة الانتخابات السابقة التي حصل عليها حزب المحافظين بالأغلبية التي مكنته من تشكيل حكومته، ولكن ها هو اليوم يعاقب ويحاسب من يحكمه! أما في بلداننا فالانتخابات مجرد تبذير للمال العام والنتائج محسومة مسبقا والكل يعلم بها؛ بل إن الشعب يُسبّ ويُهان ويهدّد في أمنه أثناء الحملات الانتخابية من طرف المجموعة الحاكمة كجزء من عملية الترويض على قبول الوضع على ما هو عليه. زيادة على ذلك فإنك ستسمع من يعترف جهارا نهارا بالمشاركة في تزوير الانتخابات السابقة بحجة عدم نضج الشعب ويُقدَّم أمثال هؤلاء كخبراء سياسيين وقد يشاركوا في تنظيم الانتخابات القائمة!! أما عن فئة الشباب المحتجة عن الأصوات الانتخابية لكبار السن فيقابلها عندنا إلغاء الانتخابات بالكلية لأجل حكمة وعبقرية بعض كبار السن ممن يعشقون الكرسي ولا طعم للحياة أو الموت عندهم إلا في أحضانه. صحيح أنهم عاشوا أزمانا مختلفة عن زمن الفئة الشبابية وحاجياتها ومتطلباتها ونظرتها للحياة وللأولويات، ولكن يحتج من يدافع عنهم بأن بعد نظرهم وعمق بصيرتهم قد تجاوزت حدود الزمان وعوامل التعرية فكلما زاد العمر عند هؤلاء وتهافتت الأسقام على أجسادهم زاد تفتق عبقريتهم وإلهامهم وقدرتهم على قيادة البلاد وفهم الشباب. من أجل ذلك فلا نستغرب أن وجدنا بعض النقابات الشبابية المدجنة في جزائرنا تقدر كبار السن والمرضى الذين يمسكون بزمام السلطة وتقدمهم للقيادة وتدعمهم في انتخابات سخر منها العالم الخارجي الذي لم يستوعب بعد الحكمة والعبقرية في كل ذلك.

فإن عدنا إلى السجال البريطاني حول الاتحاد الأوروبي نجد أن ديفيد كاميرون قد قامر بطرحه موضوع البقاء في الاتحاد الأوروبي للاستفتاء العام كطريقة لتجاوز الانقسامات الداخلية داخل حزب المحافظين بخصوص هذا الشأن.  لم يتوقع الهزيمة بالطبع، ولكن من يصدقه؟ إن ذاكرة الناخبين لا تزال غضة ترّن في خلجاتها إشاراته بإمكانية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي ثم يجدونه بعد ذلك يغيِّر خطابه خلال أشهر ليتوعد وينذر بالخطر الاقتصادي الداهم لو اختار البريطانيون الخروج! فهل كان يتوقع عدم تأديبه على هذه الشطحة المنافية للمصداقية من قبل شعب يحترم صوته الانتخابي؟ زيادة على ذلك فقد أمضى كاميرون سنوات وهو ينذر من تفاقم الهجرة ويعِد بالحدّ منها، ولكنه فشل في تحقيق ذلك، وشعوبهم لا تتلمس الأعذار لحكامها كبعض الشعوب الأخرى! إنها تراهم مجرد موظفين يتقاضون رواتبهم من المال العام لأجل تحقيق ما وعدوا به أثناء حملاتهم الانتخابية لخدمة الصالح العام، أما عندنا فالمال العام ملك للأقوى في الحكم ولذلك وجب شكرهم مرارا وتكرارا على عطاياهم وبذلهم وكرمهم، أما تبذيرهم أو شبهات فسادهم فهي مغفورة بمسحات بعض الكهنوت ما دامت الغلبة لاتزال لهم. ولا تحاول الحديث عن وعودهم البراقة في الحملات الانتخابية، من دورات كأس العالم المزدوجة التي تحولت إلى بكالوريا مكررة في نفس الفصل بسبب الغش، ولكنه غش أهون من ذاك الذي يغشى الوعود الانتخابية ولعله من مواليد الأخير؛ إلى كاليفورنيا التي سينتقل نموذجها إلى مدينة “معسكر” ليجد الشعب بعد ذلك نفسه مهددا بالعسكر لو نبس أو طالب بتحقيق الوعود.

وقد يجادل البعض بتشابه الفشل السياسي وبتدهور الأحوال الاجتماعية التي أشعلت فتيل المغادرة بالذي عندنا في الجزائر. أقول، إن تقدير “تدهور” نسبي بحسب التوقعات المسطرة للعيش الكريم، هناك من يهاجر من بلداننا المغاربية عموما ويعيش بدخل “متدهور” على القياس الأوروبي، ولكن العديد من الشباب يجد ذلك المستوى يستحق المغامرة بالحياة في البحار والمحيطات لأجل تحصيله. لأجل ذلك أقول، أن تردي الأحوال المعيشية للمواطن البريطاني البسيط لا تقارن البتة مع  التدهور الذي يعيشه المواطن الجزائري في أحواله المعيشية وتقشفاته اليومية. ولولا التكافل الاجتماعي الذي لا يزال موجودا في الجزائر، مقارنة مع التفكك الأسري للمجتمعات الغربية، فلربما شاهدنا يوميا من يموت جوعا أو بردا في الطرقات كمثال خالتي فطومة، رحمها الله، التي ماتت بردا بحسين داي. لم يكن مثال خالتي فطومة بعيدا جغرافيا عن قصور ومؤسسات صناعة القرار السياسي، ولكن البعد النفسي وبعد الاهتمامات والأولويات كان شاسعا بينهما. كما أن الفشل السياسي يقاس بحجم الوعود الانتخابية لأصحابها والمتوفر لديهم من ثروات البلاد ومقدراتها ودورتها الحضارية في التطور الاقتصادي والعلمي والمعيشي، فالكثير مما يعتبره البعض من إنجازات الساسة في الجزائر مثلا سيعتبر فشلا ذريعا بقياس المواطن الغربي. بل إن المسؤول سيحاسب حسابا عسيرا عن تلك المشاريع ليثبت جودة العمل المنجز في مقابل الأموال المصروفة عليه وتأثيراته على القطاعات الأخرى حاليا ومستقبليا، والوقت المقرر لإنجازه؛ الفارق في كل ذلك هو ما سيحدد نسبة النجاح أو الفشل، فهل ستصمد الإنجازات حينئذ في بلداننا باستخدام معايير المحاسبة والتقييم التي يقاس بها نجاح المشاريع في الدول المتقدمة؟

وقد يجادل البعض بأن الانتخابات في الدول الغربية ليست حرة كما تبدو فهي موجهة عن طريق اللوبيات المختلفة والإعلام المضلل. أقول، صحيح ما ذكرتموه فهناك لوبيات كثيرة تنشط وتحاول تضليل الرأي العام، لكن هناك مؤسسات قائمة للمراقبة والمحاسبة المستقلة عن الأجنحة السياسية وفاعليتها تعتمد على مستوى وعي المواطن وتفاعله معها. أما في بلادنا فقد جمعنا بين التضليل الإعلامي، والنهب المالي، والتحقير السياسي، وغياب المحاسبة، وغياب استقلالية القضاء وغيرها من المؤسسات عن المؤسسة الحاكمة. كما أن الهامش المتاح للشعوب الغربية للاختيار والمحاسبة وحرية الكلمة لا يقارن بما هو متوفر لدينا. إن تنافسهم هو لأجل تغيير القناعات وإرضاء الناخبين وإقناعهم بالتصويت لصالح اتجاه معين لأن تلك الأصوات محسوبة فعلا، وليس سبهم وشتمهم في مؤسسة البرلمان وخارجها. من أجل ذلك نرى أن الحرب الكلامية بين رؤوس السياسة البريطانية قد حطت أوزارها وخرجت كبرى الأحزاب منكسرة الجناح بصراخ العامة: “نريد استقلال القرار”، “نريد السيادة”، “نريد حماية حدودنا”، “نريد الحدّ من تدفق المهاجرين”، “نريد استثمار أموالنا بالداخل”. أفلا تتشابه تلك المطالب بصرخات تكبت في بلداننا؟ هل بات قرارنا مستقلا؟ هل نتمتع حقا بالسيادة الوطنية بكل معانيها؟ هل حفظت أموالنا من النهب والسرقة؟ هل حافظت بلادنا على كفاءاتها أم أن الفساد قد سبب نزيفا في دماغها بالهجرة؟ رغم اعتراف ألمانيا بجرائمها في الحرب العالمية الثانية ودفعها لذلك ضرائب باهظة الثمن معنويا وماديا، فإن نفوذ قرارها في الاتحاد الأوروبي بات يشكل حساسية للذاكرة البريطانية. أما عندنا فلدينا التسامح الذي يمحو الذاكرة عند بعض من يحكمنا حتى أن رضا فرنسا بات مقدما على رضا الشعب الجزائري، وتحدث لغة فرنسا صار مقدما على تحدث لغة الشعب الجزائري بتنوعه، ولذلك فلن يكون مستغربا مستقبلا أن نسمع مطالبة فرنسا بتعويضات جراء الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بها أثناء استعمارها للجزائر. بل قد نجد فتاوى تفرض التعويضات وتجيزها باسم التسامح على خطى أئمة فرنسا القدامى والإسلام القابل للاستعمار الذي أرادت أن تنتجه فرنسا وقتئذ، ألم يصبح خدام فرنسا من أمثال قدور بن غبريط شخصيات يحتفى بها في رئاسة المؤسسة التربوية بالجزائر؟

وبعد كل هذا العرض فإني أجد سؤالا يلح عليّ: ألا تستحق شعوبنا بعض الاحترام؟ ولكن في المقابل أجد أسئلة أخرى تعارضه: هل تعودت شعوبنا على طعم المذلة أم أنها أرغمت على ذلك؟ هل قبلت هذه الشعوب أن تقتاد من خطامها؟ أم أنها تكبت غضبها الجارف في أحشائها وتترك الحبل على الغارب حتى إذا فاض بها الكيل دمرت أمواج غضبها الأخضر واليابس واستثمرت تضحياتها حينئذ لغير ما تريد؟ أليس الأولى أن تتوحد وتلملم جراح ماضيها وتثق بنفسها في قدرتها على تغيير واقعها ومستقبل أجيالها بالعمل الدؤوب المستمر على جميع المستويات وبكل الطرق النظيفة والممكنة لذلك؟ أما من وجهة نظري فأراها شعوبا تتمتع بكل المقدرات للنجاح وبناء مستقبل أفضل ولكنها بحاجة إلى القناعة بأنها قادرة على فعل ذلك وليست بأقل من شعوب أخرى، وبحكمة تتجنب بها مخاطر الطريق، وبصبر على معوقاته وتحدياته. النوم يخدِّر أصحابه لبعض الوقت ولكن طوله قد يسبب جلطات مودية بالحياة.

[i] https://lordashcroftpolls.com/2016/06/how-the-united-kingdom-voted-and-why/

لا تعليق

كل الحقول مطلوبة! يرجى منكم احترام الآداب العامة في الحوار.